الشبهة : علم أهل البيت (عليهم السلام) بالغيب غلو

الشبهة : إنّ علم الغيب مختص بالله تعالى لقوله تعالى : ( فَقُلْ إِنّمَا الْغَيْبُ للهِ ) فكيف يدّعي الشيعة أنّ أهل البيت يعلمون الغيب ؟ تمهيد : لكي تتضح الصورة في هذه المسألة ، ينبغي أن نتوقّف قليلاً عند حقيقة علم النبي (صلّى الله عليه وآله) للتعرّف على مقدار وحدود ونوع هذا العلم ، […]

الشبهة :
إنّ علم الغيب مختص بالله تعالى لقوله تعالى : ( فَقُلْ إِنّمَا الْغَيْبُ للهِ ) فكيف يدّعي الشيعة أنّ أهل البيت يعلمون الغيب ؟

تمهيد :
لكي تتضح الصورة في هذه المسألة ، ينبغي أن نتوقّف قليلاً عند حقيقة علم النبي (صلّى الله عليه وآله) للتعرّف على مقدار وحدود ونوع هذا العلم ، وما هي نوع العلاقة بين أهل البيت (عليهم السلام) وبين النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وهل توارث أهل البيت (عليهم السلام) علمهم من النبي (صلّى الله عليه وآله) أم لا ؟
وسوف نخوض في تحقيق هذه المعاني بشكل إجمالي مكتفين بالإشارة المفهمة ، التي من خلالها يمكن إيصال المطلوب ، وسيتجلّى إن شاء الله تعالى ، أنّ أهل البيت (عليهم السلام) هم ورثة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في العلم اللدني الخاص من الله تعالى .

علم النبي (صلّى الله عليه وآله)
ولكي نصل إلى معرفة علم النبي (صلّى الله عليه وآله) ، ينبغي الإجابة على تساؤل مسبق ، يثار على ضفاف هذه المسألة يسهم في بناء الرؤية الفكرية الصحيحة حول العلم بالغيب .

والسؤال هو : ما هي حقيقة وجوهر علم النبي (صلّى الله عليه وآله) ؟

وفي مقام الجواب على ذلك نقول :
إنّ علم النبي هو سنخ علم خاص يختلف عن علوم سائر البشر المتعارفة ، التي تسمّى بالاصطلاح العلمي بالعلوم الحصولية ، وقد سجّل القرآن الكريم هذه الحقيقة ، كما في قوله تعالى :

( وَعَلّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلّهَا ثُمّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (1) إلى أن قال تعالى : ( قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاّ مَا عَلّمْتَنَا إِنّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) (2) ، ثم انعطف بتوجيه الخطاب إلى آدم (عليه السلام) ، فقال : يا آدم أنبئهم بأسمائهم ، حيث نجد أنّ المشهد القرآني استبدل صيغة التعبير من ( التعليم ) الذي استخدمه مع آدم إلى التعبير ( بالإنباء ) الذي استخدمه مع الملائكة ، وتغيّر التعبير لم يكن بسبب التفنن الأدبي فحسب ، لأنّنا بإزاء كلام الله تعالى ، الذي وصفه في قرآنه بأنه : ( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) (3) ، إذن التعبير بهذه الصيغة يحمل في طياته مغزى يتمثّل في أنّ ما حصل لآدم هو تعليم ، وأنّه (عليه السلام) كان فيه القابلية والاستعداد لتحمل هذا العلم الإلهي الذي لم يتحمله غيره ، أمّا الملائكة فلم يتجاوز تحمّلهم سوى الإنباء لهم بالواسطة ، لعدم استعدادهم لتلقّي الفيض من الله تعالى بالمباشرة ؛ لأنّ نشأتهم الوجودية لا تؤهّلهم لتعلّم ذلك العلم وحمله بتمامه وبالمباشرة ، وإنّما ما يمكنهم هو الإنباء والاطلاع على الواقعة بعد تمامها بالواسطة .

وتشير الآية المباركة الآنفة الذكر إلى نقطة بالغة الأهمية ، تتمثّل في موقع ومنزلة العلم الذي تعلّمه آدم (عليه السلام) ، فلأهمية وعظمة هذا العلم ؛ حاز (عليهم السلام) به الموقع الوجودي الذي أهّله ليكون مسجوداً للملائكة   ( فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلّهُمْ أَجْمَعُونَ ) ، ولا يخفى أنّ لفظة الملائكة المحلاّة بالألف واللام تفيد العموم والشمول ، ولفظة كلّهم لزيادة التأكيد ، ثم عاد ليؤكّده بالمزيد في قوله تعالى :  ( أجمعون ) ممّا يفيد عدم تخلّف أحد من الملائكة في السجود إلى هذا الخليفة الإلهي الأرضي ؛ ولذا نجد الكثير من المفسرين ذهبوا لذلك ، كما يومئ إليه قول الفخر الرازي في تفسيره : ( قال الأكثرون إنّ جميع الملائكة مأمورون بالسجود لآدم )  (4) ثم ذكر الأدلة التي احتجّوا بها على رأيهم .

أفضلية نبيّنا (صلّى الله عليه وآله) على سائر الأنبياء

اتفقت كلمة المسلمين على أفضلية نبيّنا محمد (صلّى الله عليه وآله) على بقيّة الأنبياء من أُولي العزم من الرسل وغيرهم من الأنبياء والمرسلين ، وجاء هذا الإجماع على ضوء أدلّة قرآنية وروائية ، منها قوله تعالى : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النّبِيّين مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى‏ وَعِيسَى‏ ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِيثَاقاً غَلِيظاً ) (5) فمع أنّ نبيّنا آخر النبيين مبعثاً ، إلاّ أنّ القرآن الكريم يقدّمه في أخذ الميثاق على نوح (عليه السلام) الذي هو أوّل أنبياء أُولي العزم ، ثم يأتي مَن يليه من أُولي العزم ، ولم يأتِ هذا التقديم جزافاً ؛ إذ لا موضع للجزاف في القرآن الكريم ، الذي هو كتاب الله وكلماته ، وقد ذكر الآلوسي في تفسير الآية قائلاً : ( تخصيصهم بالذكر مع اندراجهم في النبيين اندراجاً بيّناً للإيذان بمزيد مزيتهم وفضلهم وكونهم من مشاهير أرباب الشرائع ، واشتهر أنّهم أُولو العزم صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين ، وأخرج البزاز عن أبي هريرة أنّهم خيار ولد آدم (عليه السلام) ثم أضاف : ( وتقديم نبيّنا (صلّى الله عليه وآله) ثم أضاف : ( وتقديم نبيّنا (صلّى الله عليه وآله) مع أنّه آخرهم بعثة للإيذان بمزيد خطره الجليل ، أو لتقدّمه في الخلق )  (6) .

والأحاديث المشهورة في هذا المضمار كثيرة ، لا سيّما الأحاديث التي تركز على حقيقة مهمّة ، وهي أنّ نبيّنا (صلّى الله عليه وآله) هو أوّل مخلوق خلقه الله سبحانه وأنّه المصداق الأتم ، والتجسيد الأكمل للخلافة الإلهية ، وقد أشار الآلوسي لهذا المعنى بقوله : ( فهو عليه الصلاة والسلام الكامل المكمّل للخليقة ، والواسطة في الإفاضة عليهم على الحقيقة ، وكل مَن تقدّمه عصراً من الأنبياء وتأخّر عنه من الأقطاب والأولياء ، نوّاب عنه مستمدّون منه ) (7) .

وقد جاء في العديد من الروايات أنّه (صلّى الله عليه وآله) أفضل الأوّلين والآخرين ، ومن هنا نجد القرآن الكريم بيّن عظمة الرسول (صلّى الله عليه وآله) في عدّة من آيات أخرى ، منها : قوله تعالى : ( لَعَمْرُكَ إِنّهُمْ لَفِي سْكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (8) ، وقال القاضي عياض في ذيل هذه الآية : ( اتفق أهل التفسير في هذا أنّه قسم من الله جلّ جلاله بمدّة حياة محمد (صلّى الله عليه وآله) … وهذه نهاية التعظيم وغاية البر والتشريف ، قال ابن عباس : ما خلق الله تعالى وما ذرأ وما برأ نفساً أكرم عليه من محمد (صلّى الله عليه وآله) وما سمعت الله أقسم بحياة غيره ، وقال أبو الجوزاء : ما أقسم الله بحياة أحد غير محمد (صلّى الله عليه وآله) ؛ لأنّه أكرم البرية عنده ) (9) .

وقد تضافرت الروايات في هذا المعنى :

منها : ما جاء عن واثلة بن الأسقع قال : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : ( إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفاني من بني هاشم ، فأنا سيّد ولد آدم ولا فخر ، وأوّل مَن تنشق عنه الأرض ، وأوّل شافع وأوّل مشفّع ) (10) .

ومنها : ما روته عائشة عنه (صلّى الله عليه وآله) قال : ( أتاني جبرائيل فقال : قلّبت مشارق الأرض ومغاربها فلم أرَ رجلاً أفضل من محمد ، ولم أرَ بني أب أفضل من بني هاشم ) (11) .

ومنها : ما ورد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : ( أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ، وأوّل مَن ينشق عنه القبر ، وأوّل شافع وأوّل مشفّع ) (12) .

ونحوها من الروايات التي تؤكّد وتثبت أفضلية نبيّنا محمد (صلّى الله عليه وآله) على سائر الأنبياء (عليهم السلام) ، وهذه الحقيقة ممّا لا خلاف فيها بين المسلمين ، فهي محل اتفاق الجميع .

الرسول (صلّى الله عليه وآله) أعلم الأنبياء على الإطلاق
اتضح ممّا تقدم آنفاً أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) أفضل الأولين والآخرين ، وأفضل الأنبياء على الإطلاق ، فمن البديهي أن يكون (صلّى الله عليه وآله) أعلم الأنبياء جميعاً ؛ وإلاّ فلا يكون هناك معنى للأفضلية والقرب والرفعة والمقام المحمود عند الله تعالى .

وقد تبيّن أنّ علم الأنبياء والمرسلين سيما نبيّنا (صلّى الله عليه وآله) هو سنخ علم خاص ليس من العلم الاكتسابي المتعارف عند سائر الناس ، كما هو الحال في علم التلميذ الذي يأخذ علمه من المعلم ، فعلم الأنبياء هو علم يلقيه الله سبحانه في قلب مَن يشاء ، وهو مفاد قوله تعالى : ( فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلّمْنَاهُ مِن لدُنّا عِلْماً ) (13) وكذلك العلم الذي أفاضه تعالى على آدم (عليه السلام) وألقاه في قلبه مرة واحدة ، بقوله تعالى : ( وَعَلّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلّهَا ) (14) .

إذن علم الأنبياء هو علم خاص يلقيه الله تعالى في قلب مَن يشاء . وعلى هامش هذا المعنى تنبثق إثارة أخرى ، محصّلها : هل الأنبياء يعلمون الغيب أم لا ؟

الأنبياء يعلمون الغيب
إنّ المتأمّل في هذه الإثارة يجد أنّ منشأها من قِبَل البعض الذين يجمدون على ظواهر بعض الآيات القرآنية ، التي تنفي العلم للغيب لغير الله تعالى ، كقوله تعالى : ( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِنَ الرّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ ) (15) ، وكذا قوله تعالى : ( قُل لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنّي مَلَكٌ ) (16) وقوله تعالى : ( قُل لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاّ مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسّنِيَ السّوءُ ) (17) .

إلاّ أنّ الملاحظة التي تستدعي الالتفات ، والتي غفل عنها أصحاب الشبهة ، وأخذوا ينظرون إلى القرآن بعين واحدة ، هي أنّ القرآن الكريم يفسر بعضه بعضاً ، فقد ورد في آية واحدة بيان شافٍ لذلك ، وهو قوله تعالى : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى‏ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ ارْتَضَى‏ مِن رسُولٍ فَإِنّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى‏ كُلّ شَي‏ءٍ عَدَداً ) (18) نعم ( وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شَاءَ ) (19) .

إذن على ضوء هذه الآية المباركة ( إِلاّ مَنِ ارْتَضَى‏ مِن رّسُولٍ ) يتضح تخصيص الأنبياء والرسل المرضيين عند الله تعالى ، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم ، بأنّ الله تعالى أوصى إلى الأنبياء والرسل وأطلعهم على الغيب :   ( إِنّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى‏ نُوحٍ وَالنّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى‏ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسى‏ وَأَيّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنَا دَاوُود زَبُوراً ) (20)   .

مضافاً إلى ما صرّحت به الروايات من اطلاع الأنبياء على الغيب ، وبعبارة أخرى : إنّ الآيات التي تنفي بظاهرها علم الغيب عن الأنبياء واختصاصه بالله تعالى ، إنّما يكون المقصود منها هو نفي علم الغيب من الأنبياء بالاستقلال والأصالة ومن دون الإذن الإلهي ، وليست هذه الآيات في مقام نفي العلم بالغيب عن الأنبياء إذا كان بنحو التبعية والتعليم من قِبل الله وبإيحاء منه تعالى ، كما قال تعالى حكاية عن النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) : ( لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنّي مَلَكٌ ) (21) ، مضافاً لحكم العقل القاضي باستلزام موقع الخلافة الإحاطة والعلم بكلّ شيء .

إذن لا إشكال في علم الأنبياء بالمغيبات إذا كان بإذن الله تعالى ، وإليك جملة من الشواهد القرآنية على ذلك :

شواهد من علم الأنبياء بالغيب

ثمّة عدد من النصوص الأخرى القرآنية التي تشهد على علم الأنبياء بالغيب ، منها :

1 ـ ما قاله وبيّنه نبي الله صالح لقوله ، كما في قوله تعالى : ( فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ )  (22)   .

2 ـ كلام نبي الله عيسى (عليه السلام) وأخباره لبني إسرائيل بما يأكلون وما يدخرون ، كما في قوله تعالى: ( وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنّ فِي ذلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (23) .

3 ـ ما ورد في القرآن من مواعيد الأنبياء بالملاحم والإخبار بالغيب ، وقد وقع ذلك كلّه كوعيد نوح بحدوث الطوفان ، وإنذار هود وشعيب ولوط بوقوع العذاب ، وغير ذلك .

إخبار نبيّنا محمد (صلّى الله عليه وآله) بالغيب

ونجد في هذا الحقل إخبارات غيبية كثيرة ، سطّرها القرآن الكريم منها :

1 ـ إخباره (صلّى الله عليه وآله) بانهزام الفرس على يد الروم ، كما في قوله تعالى : ( الم * غُلِبَتِ الرّومُ * فِي أَدْنَى‏ الأَرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ‏ِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ) (24) .

2 ـ إخباره لأصحابه بأنّهم سيدخلون المسجد الحرام في مكة ، كما في قوله تعالى : ( لَتَدْخُلُنّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ ) (25) ، وقد تحقق الأمر بذلك الدخول كما أخبر به الله تعالى ، ورسوله (صلّى الله عليه وآله) .
3 ـ ما أخبر به (صلّى الله عليه وآله) بالغيب في مقام التحدّي وإعجاز القرآن ، وأنّه لم يستطع أحد أن يأتي ولو بسورة واحدة ، كما قال تعالى :   ( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ )   (26) ، وكذا قوله تعالى :   ( فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ) (27)   .

4 ـ إخباره بالفتوحات والمغانم الكثيرة ، كما في قوله تعالى : ( وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا ) (28) .

5 ـ إخباره تعالى أنّه يحفظ نبيّه من أذى المنافقين ، كما في قوله تعالى : ( وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ ) (29) . هذا وإن كان إخبار بالغيب من قِبل الله تعالى على لسان رسوله (صلّى الله عليه وآله) ولكن ذلك لا ينافي أن يكون النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) يعلم الغيب بالتبع عن طريق إعلام الله تعالى له .

علم أهل البيت (عليهم السلام)

بعد أن تبيّن أنّ علم الأنبياء (عليهم السلام) هو سنخ علم خاص يتلقّاه النبي من الله تعالى سواء أكان عن طريق الإلهام أم التلقين ، ينبغي الالتفات إلى أنّ الله سبحانه وتعالى هو العالم وحده بالاستقلال ولا يشاركه غيره ، نعم قد يفيض الله تعالى من علمه على بعض المخلوقات كالأنبياء (عليهم السلام) على وفق حكمته تعالى ، ومَن ثمّ قد تتفاوت درجات إفاضة هذا العلم من قِبله تعالى حسب ما تقتضيه حكمته . وعلى هذا الأساس نقول : إنّ الله تعالى خصّ أهل البيت (عليهم السلام) أيضاً بهذا النوع من العلم ؛ لكونهم ورثة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهم الثقل والعِدْل الآخر للقرآن الكريم ، وسوف نلج في هذا المبحث من خلال بوّابة العقل ، وبوّابة القرآن الكريم ، والروايات الخاصة بذلك وبعض الشواهد الأخرى .

الدليل العقلي على علم الإمام

بما أنّه ثبت في محلّه أنّ الأئمّة (عليهم السلام) خلفاء الله في أرضه ، ومقام الخلافة الإلهية في الأرض هو سنخ مقام لحكم الله في أرضه ، وهو ما تسجّله الأبحاث التفسيرية على هدي قوله تعالى : ( إِنّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) (30) ومن هنا نجد الآلوسي يقول : ( ومعنى كونه خليفة أنّه خليفة الله تعالى في أرضه ، وكذا كل نبي ، استخلفهم في عمارة الأرض وسياسة الناس ، وتكميل نفوسهم ، وتنفيذ أمره فيهم لا لحاجة به تعالى ، ولكن لقصور المستخلف عليه ؛ لما أنّه في غاية الكدورة والظلمة والجسمانية ، وذاته تعالى في غاية التقدس ، والمناسبة شرط في قبول الفيض على ما جرت به العادة الإلهية ، فلابدّ من متوسّط ذي جهتي تجرّد وتعلّق ؛ ليستفيض من جهة ويفيض بأخرى ) (31) .

إذن تبيّن أنّ الخليفة موجود أرضي له بعدان : أحدهما روحي ، والآخر معنوي وبشري يؤهّله للنهوض بدوره في العالم ليمثّل سلطان الله في أرضه ، وعلى هذا الأساس فلابدّ من أن يتمتع بمواصفات ومزايا خاصة ، فينبغي أن يكون أعلم ممّا سواه ليمثّل علم الله تعالى ، وأن يكون قادراً على تحمّل منصب الخلافة في القدرة والسمع والبصر الإلهي على هذه الأرض ، ومن هنا نجد نصوصاً روائيةً وافرةً تشهد على أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) لهم هذه القدرة بإذن الله تعالى .

ففي الحديث ، عن أبي هريرة أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال : ( هل ترون قبلتي ها هنا فوالله ما يخفى علي خشوعكم ولا ركوعكم وإنّي لأراكم من وراء ظهري ) (32) .

وقد ذكر ابن حبان: ( بأنّ المصطفى (صلّى الله عليه وآله) كان يرى من خلفه كما يرى بين يديه فرقاً بينه وبين أُمّته ) (33) .

ولا غرابة في ذلك ، كما يحدثنا القرآن عن كثير من الأنبياء بامتلاكهم مثل هذه القدرة ، فهذا نبي الله عيسى (عليه السلام) له قدرة على الخلق وإحياء البشر وشفاء المرضى ، قال تعالى : ( وَيُعَلّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * وَرَسُولاً إِلَى‏ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِن رَبّكُمْ أَنّي أَخْلُقُ لَكُم مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى‏ بِإِذْنِ اللهِ ) (34) .

ومن هنا نجد أنّ ابن كثير يقول في تفسيره في ذيل الآية : ( وكذلك كان يفعل : يصوّر من الطين شكل طير ثم ينفخ فيه ، فيطير عياناً بإذن الله عزّ وجلّ الذي جعل هذا معجزة له تدل على أنّ الله أرسله ) (35) .
وقد جاء في روايات الخلفاء الاثني عشر ( كلّهم يعمل بالهدى ودين الحق ) ولا ريب أنّ مَن يعمل بالهدى لا بد أن يكون على علم خاص من الله سبحانه وتعالى ، وإلاّ فوقوعه في الخطأ لا شك فيه .

إذن تبيّن أنّ الإمام ( الخليفة ) لابدّ أن يتوفّر على علم خاص منه تعالى ليؤهّله لأداء مسؤوليته وتمثيله في الأرض .

الأدلة القرآنية على علم الإمام

نستعرض فيما يلي جملة من الآيات القرآنية الواردة بشأن اختصاص أهل البيت (عليهم السلام) بنوع خاص من العلم يختلف عن علم سائر الناس .

الدليل الأوّل :

قوله تعالى : ( ثُمّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لنَفْسِهِ وَمِنْهُم مّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) (36) وتقريب الاستدلال بهذه الآية يتطلّب منّا أن نمكث قليلاً لمعرفة حقيقة الوراثة القرآنية واختلافها عن الوراثة الترابية ( المادية ) ، لا سيّما مع ملاحظة أنّ أوّل ما يطالعنا القرآن به من الوراثة هي وراثة الإمامة المستمرّة إلى يوم القيامة التي نلمسها بوضوح من خلال دعوة النبي إبراهيم لذرّيته .

دعوة النبي إبراهيم لذرّيته

إنّ منصب الإمامة وما يمثّله من حالة تكاملية للإنسان الذي يعد من أرقى درجات التكامل الإنساني ، شاء الله تعالى بلطفه وكرمه وفضله على الأنبياء ، أن يجعل من ذريتهم أئمة وهداة يؤدون الواجب الإلهي تكريماً لهم ونعمة ومنة منه تعالى على أنبيائه (عليهم السلام) .

وفي الوقت نفسه كان هذا التكريم يمثّل رغبة وأمنية من أمنيات الأنبياء ، تفصح عن حالة فطرية عند الإنسان في الرغبة والبقاء والاستمرار من خلال ذريته الصالحة ، وهذا بحث اجتماعي مهم يرتبط بدراسة علاقة الإنسان بذريته وشعوره بالبقاء من خلالها .

فالقضية إذاً ترتبط بكلا الجانبين : الجانب الإلهي ، وهو تعالى الجواد المتفضّل على أنبيائه المجيب لدعائهم ، والجانب الإنساني العبودي المتمثّل بهؤلاء الأنبياء الذين أخلصوا لله تعالى في العبودية .

وهذا ما نشاهده واضحاً على لسان نبي الله إبراهيم (عليه السلام) الذي هو شيخ الأنبياء ، عندما امتحنه الله تعالى ، ونجح في ذلك الابتلاء والاختبار ، كان أوّل شيء طلبه من الله تعالى هو أن تكون هذه الإمامة التي حمّله الله مسؤوليتها ، أن تكون في ذرّيته أيضاً ، كما في قوله تعالى : ( وَإِذِ ابْتَلَى‏ إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمّهُنّ قَالَ إِنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرّيَتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ) (37) ، وكذا وقوله تعالى : ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبّنَا تَقَبّلْ مِنّا إِنّكَ أَنْتَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيّتِنَا أُمّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنّكَ أَنْتَ التّوّابُ الرّحِيمُ ) (38) حيث طلبا من الله تعالى في البداية قبول هذا العمل العظيم ، ثم دعيا أيضاً أن يشرك معهما في إسلامهما لله عزّ وجلّ ذريتهما من المسلمين المهتدين المقبولين لديه ،  ولم يقتصرا على ذلك وإنّما طلبا من الله تعالى أن تكون هذه الذرية ذرية تتحمّل مسؤولية النبوّة والرسالة أيضاً ، كما بيّنته الآية الشريفة ، حيث جاء فيها :  ( رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )   .

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : ( فَهَبْ لِي مِن لّدُنكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي ) .

ولذلك نلاحظ أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان يفتخر ويقول : ( أنّا دعوة إبراهيم ) (39) أي في جعله من ذرية إبراهيم (عليه السلام) ، وأنّه الرسول الذي يتلو الآيات ، ويعلّم الناس الكتاب والحكمة ويزكّيهم .

الإمامة في الذرّية سنّة قرآنية

عندما نرجع إلى القرآن ومفاهيمه وتصويره لحركة الأنبياء والرسالات الإلهية ، نجد أنّ هذا التكريم الإلهي للأنبياء ، وهو أن يجعل من ذريتهم أنبياء وأئمّة يقومون بالواجب الإلهي ، فصار ذلك سنّة من السنن الإلهية الواضحة في تاريخ الرسالات والأنبياء ، كما في قوله تعالى : ( وَتِلْكَ حُجّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى‏ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَات مَن نَشَاءُ إِنّ رَبّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرّيّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى‏ وَهَارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيّا وَيَحْيَى‏ وَعِيسَى‏ وَإِلْيَاسَ كُلّ مِنَ الصّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرّيّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى‏ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (40) .
حيث يشير القرآن الكريم في الآيات المباركة إلى هذه السنّة التاريخية وتعميمها لتشمل الآباء والإخوان ، كما في قوله تعالى ومن آبائهم وذريتهم وإخوانهم ، وكذلك ما ورد في سورة مريم عندما تحدث القرآن عن عدد من الأنبياء ، وهم إبراهيم وبعض ذريته ، وإدريس من قبل إبراهيم ، وبعد ذلك يذكر القانون العام في الذرية   ( أُولئِكَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِنَ النّبِيّينَ مِن ذُرّيّةِ آدَمَ وَمِمّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرّيّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى‏ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرّحْمنِ خَرّوا سُجّداً وَبُكِيّاً )   (41) ، ويشير القرآن الكريم إلى هذا المعنى عندما يتحدث عن نوح وإبراهيم ، وأنّه تعالى جعل في ذريّتهما النبوّة ، قال تعالى :   ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرّيّتِهِمَا النّبُوّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ )   (42) .

وغيرها من الموارد الكثيرة التي لا يسع المجال لاستعراضها .

وبعد أن اتضح أنّ هذه سنّة إلهية تحكم مسيرة وحركة الأنبياء ، ويبرز لنا عنوان آخر في عدد من الآيات القرآنية ، ولعلّه يعد السبب الرئيس من وراء جعل هذه السنّة في حركة الأنبياء وكونهم من ذرية واحدة ، وهو ما تحدث عنه القرآن الكريم في مناسبات متعددة ، ذلك هو الاصطفاء والاجتباء .